كثيراً ما ابتليت تركيا بحكومات تحالف متعددة غير عملية غالباً ما أطلقت خلافاتها الداخلية العنان لتدخل المؤسسة العسكرية. وحتى يتسنى فهم الديناميات التي تلعب دورها في قلب المشهد السياسي التركي الحالي، وكيف تمكّن \\\"حزب العدالة والتنمية\\\" من تجذير نفسه في وسط هذا المشهد السياسي المضطرب، ربما تتعين علينا العودة إلى جذور تركيا الجمهورية وتوجهات مؤسسها مصطفى كمال أتاتورك. وأقل ما يمكن قوله هنا هو أن الأمة التركية مدينة بكثير لشخصية أتاتورك القوية (ويعني اسمه \\\"أبو الأتراك\\\")، والبطل العسكري الذي أنقذ أمة مهزومة ومحطمة معنوياً من هاوية التفكك الكارثي للدولة العثمانية في نهاية الحرب العالمية الأولى. وعلى رغم أن أتاتورك صمم دولة بدستور ليبرالي، إلا أنه نظر إلى الأحزاب بشكّ وريبة وعدم ثقة، وشعر بأن أية معارضة حقيقية ستعرض إصلاحاته الشاملة للخطر. وإضافة إلى ذلك، نظر أتاتورك للدين على أنه مضاد للتقدم، ولذا شكلت عملية تهميش الدين واحداً من المبادئ الإرشادية للعلمانيين الأتراك، بمن فيهم المؤسسة العسكرية، التي تعتبر نفسها حامية لمبادئ \\\"الكمالية\\\" الاجتماعية العلمانية، على رغم أنه كان يُقصَد بها دستورياً أن تكون لا حزبية. إلا أن المؤسسة العسكرية اضطرت لاقتحام ميدان السياسة بعد فترة الحرب العالمية الثانية، عندما هبطت تركيا إلى مستوى الفوضى السياسية والبؤس الاقتصادي نتيجة للفراغ السياسي الذي أوجده قادتها المتناحرون، ولم تنسحب هذه المؤسسة بشكل كامل. وهي تجلس اليوم في مجلس الأمن الوطني، الأمر الذي يجعلها فعلياً شريكاً دائماً في أية حكومة. وقد انتهت هذه الفترة الطويلة من السياسة المضطربة عندما أصبح تورغوت أوزال رئيساً للوزراء عام 1983. وهو يعتبر من قِبَل الكثيرين أكثر زعماء تركيا تأثيراً منذ أتاتورك. ولم يرَ أوزال، الذي ينحدر من أصول كردية، أي تناقض بين الدين والحداثة وسعى لإدخال الدين في الثقافة الاجتماعية بشكل مماثل للولايات المتحدة. وفي يناير عام 1991 وكرئيس للدولة، وافقت وزارته على محو ثلاث مواد من قانون العقوبات الذي كان قد منع السياسة على أساس الطبقة الاجتماعية أو الدين. وقد وجد الدين، في هذا المناخ، سبيلا لجعل آثاره محسوسة في نظام جديد منفتح ديمقراطي بشكل علني، وكنتيجة مباشرة، تم تشكيل الأحزاب الدينية. وفي عام 1997 توصّلت أول رئيسة وزراء في تركيا تانسو تشيلر إلى صفقة للمشاركة في السلطة مع حزب إسلامي سياسي، وهو الحزب الذي سبق حزب العدالة والتنمية. ولكن في انقلاب آخر من انقلابات تركيا قام العسكر بإسقاط تلك الحكومة، مما أدى إلى تدمير فرصة قيام حزب يرتكز على الدين بإثبات نفسه. إلا أن سلسلة من الحكومات الضعيفة المتعلقة بالفضائح والتضخم المتنامي والشجارات السياسية، مضافاً إليها وصول جيل أصغر عمراً من الزعماء الإسلاميين السياسيين على شكل الديمقراطيين المسيحيين الأوروبيين، أعدت المسرح للعودة المثيرة للدهشة لحزب العدالة والتنمية. واليوم، تعجز الأحزاب العلمانية الممزّقة من قبل تجمعات تدفعها خصومات الأمزجة والأهواء، الشخصية عن طرح مرشح وحدة يستطيع بكفاءة تحدي زعامة حزب العدالة والتنمية. وتشعر أعداد كبيرة من الذين يصوّتون للأحزاب العلمانية بأنه قد جرى حرمانهم من تأثير سياسي فاعل. ويكمن الخطر في إمكانية تحولهم إلى المؤسسة العسكرية لعمل ما لم يستطع زعماؤهم عمله وانتزاع السلطة من حزب العدالة والتنمية بالقوة، كما أشارت مؤشرات ظهرت مؤخراً فيما يتعلق بما يسمى مجموعة \\\"إيرجينيكون العلمانية، المتهمة بالتآمر لإسقاط الحكومة. ويبدو حزب العدالة والتنمية حالياً أقرب إلى الحزب الوسطي. ويعني انحطاط حزب الشعب الجمهوري على يسار الوسط، والأحزاب على يمين الوسط مثل حزب \\\"الطريق القويم\\\" وحزب \\\"الوطن الأم\\\"، أنه لا يوجد غرماء خطرون في وجه حزب العدالة والتنمية في الوقت الراهن. وقد يكون التهديد الرئيسي لسيطرة الحزب، في نهاية المطاف، هو حزب العدالة والتنمية نفسه، وإغراءات تعدّي حدوده السياسية نتيجة لتزايد شعبيته. ريموند. جي. ماس كاتب ومحلل سياسي ينشر بترتيب خاص مع خدمة \\\"كومون جراوند\\\"